Índice

Presentación

Introducción al sufismo

La vida de Šayj Aḥmad al-Tiŷānī

Las condiciones de la Vía Tiŷāniyya

El método de la Vía Tiŷāniyya

Los favores de la Vía Tiŷāniyya

La Fayḍa Tiŷāniyya

Šayj Ibrāhīm Nyasse

Šayj cAbda-l·lāh Djā

Enseñanzas de la Vía Tiŷāniyya

Súplicas de la Vía Tiŷāniyya

Lengua árabe

Fiqh Mālikī

Noticias

Multimedia

Enlaces

Contactar

بغية المستفيد

لشرح منية المريد

 

تأليف

سيدي العربي بن السائح الشرقي العمري التجاني


مقدمة

تشتمل على سبعة مطالب مهمة


المطلب الثالث

فِي الاشَارَةِ الَى نُبْذَةٍ مِنْ ادَابِ الحَضْرَةِ العَلِيَّةِ، وَبَعْضِ مَا ﭐتَّصَفََ بِهِ مِنْ ذَلِكَ اهْلُ الْمَرَاتِبِ السَّنِيَّةِ.


لما قدمنا في المطلب قبل هذا ما فيه بحمد الله تعالى الكفاية العميمة، من الكلام في حقيقة الادب ومعرفة منشئه وبيان مكانته الفخيمة، وكانت مطالعته داعية بتوفيق الله تعالى الى التعلق بحبله المتين وسببه القوي، والانتهاج لنهجه الاقوم وسبيله السوي، احببت ان ارْدِفَه مما اذكره في هذا المطلب بما يكون ان شاء الله تعالى عونا للمريد الرَّاغب في كمال الاقتداء على ما يرومه من تحقيق المتابعة لائمة الاهتداء. فاقول، مستعينا بحول القوي المعين، معتمدا على فضله الواسع وفتحه المبين:

اعلم ان الانبياء عليهم الصلاة والسلام الذين هم صفوة الله تعالى من البرية، اكمل الناس ادابا مع الحضرة المقدسة العلية، واتم قياما بحقوقها ووظائفها المرعية، من سائر من عداهم من اهل المراتب السنية، حسبما نطق به القران العظيم، وافصحت به ايات الذكر الحكيم.

قال مولانا جل جلاله فيما خاطب به حبيبه المصطفى الكريم، عليه افضل الصلاة وازكى التسليم: ﴿وَانَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ قال في [العوارف]: "قال مجاهد: اي على دين عظيم، والدين مجموع الاعمال الصالحة، والاخلاق الحسنة. وقال الحسن: لانك لم يؤثر فيك جفاء الخَلْقِ، مع مطالعة الحق. اه وهذا غاية في كمال ادبه صلى الله عليه وسلم".

وقال الواسطي: "الخُلُقُ العظيم ان لا تخاصِم ولا تخاصَم. وقال ايضا: لانك قبلت ما اسديت اليك من نعمي احسن مما قبله غيرك من الانبياء والرسل".

وقال الجنيد: "لانه لم يكن له همة في سوى الله تعالى" ولا محالة ان من كان بهذه المثابة كان اجمع لمكارم الاخلاق ومحاسن الاداب على الوجه الاكمل".

وقيل في تفسير هذه الاية الكريمة غير هذا. فقيل: لانه صلى الله عليه وسلم عاشر الخلق بخُلُقه، وباينهم بقلبه. وقيل: "سمي خلُقُه عظيما لاجتماع مكارم الاخلاق فيه" اه.

وقد تقدم لنا في حقيقة الادب انه الجمع لمكارم الاخلاق، ومحاسن الفعال والخلال، على احسن ما يكون من وجوه الكمال، والاية الكريمة على مجموع هذه التفاسير دالة على ذلك اتم دلالة واوضحها. فهي اخبار من الله تعالى بان حبيبه صلى الله عليه وسلم مجمع الاداب ظاهرا وباطنا، وانه صلى الله عليه وسلم اكمل الخلق ادبا، واتمهم قياما به مع الحق ومع الخلق على الوجه الذي لا يدركه غيره، والله تعالى اعلم.

وقال مولانا جل علاه ﴿مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ وفي هذه الاية الكريمة ايضا اخبار من المولى الكريم الاعظم، عن كمال ادب حبيبه الاكرم، صلى الله عليه وسلم. قال في [العوارف]: "وهذه غامضة من غوامض الادب اختص بها صلى الله عليه وسلم" ثم قررها بما ملخصه: انه صلى الله عليه وسلم لكمال اعتدال قلبه المقدس في الاعراض والاقبال، كان حاله في كلا الطرفين اتم الاحوال. فكما اعرض عن كل ما سوى الله تعالى اتم اعراض واكمله، فكذلك اقبل عليه سبحانه وتعالى احسن اقبال واجمله. فترك صلى الله عليه وسلم في اعراضه الارضين والسموات وما فيهن من وراء ظهره، ولم يزغ بصره، ولا التفت الى شيء مما اعرض عنه. ولا لحقه الاسف عليه في سره ولا جهره، وادرك في اقباله مما ورد عليه في مقام قاب قوسين من المنَح والمواهب والاسرار، مالا تحيط به العقول. ولا تكيفه الافكار. فلم يَطْغَ صلى الله عليه وسلم بالانبساط، ولا اخل بشيء من اداب جلالة البساط. وذلك انه صلى الله عليه وسلم تلقى تلك المواهب التي وردت عليه من حضرة الرب، في خَجَال من حيائه، وخَفارة من ادبه بالروح والقلب. ثم فر من الله تعالى هيبة واجلالا، فطوى نفسه بفراره، في مطاوي انكساره وافتقاره، لئلا تنبسط النفس بالاستغناء، كما قال تعالى ﴿ انَّ الانْسَانَ لَيَطْغَى انْ رَاهُ ﭐسْتَغْنَى﴾. ولا شك ان الانبساط من العبيد، يسد باب المزيد. وهذا الفرار بالنفس على ما وصفناه، هو الفرار من الله الى الله. وهو نهاية الادب. وقد حضي منه صلى الله عليه وسلم بما لم يحظ به احد قبله ولا بعده من اهل الرتب. فدام له من ربه سبحانه وتعالى المزيد ونال منه غاية الارب اه ما لُخِّص من [العوارف].

ونقل فيها بعده عن سهل بن عبد الله رضي الله عنه انه قال في الاية الشريفة: "لم يرجع صلى الله عليه وسلم الى نفسه ولا الى مشاهدة اوصافها، وانما كان مشاهدا بكليته لربه، يشهد ما يظهر عليه من الصفات التي اوجبت له الثبوت في ذلك المحل. قال صاحب [العوارف]: "وهذا الكلام لمن اعتبره موافق لما شرحناه برمز في ذلك من سهل بن عبد الله رحمه الله تعالى ورضي عنه اه.

وقال الشيخ محي الدين رضي الله عنه فيما يتعلق بمعنى الاية الكريمة ما نصه: "من ادب من يجالس الاكابر الهيبة والوقار، فلا يلتفت ولا يشغل سره بمشاهدة غير جليسه. ومن شانه عصمة قلبه من الخواطر، وعقله من الافكار، وجوارحه من الحركات، وعدم التمييز بين الحسن والقبيح، ويجمع اعضاءه اجتماعا يسمع له ازيز كازيز القدر الذي يغلي على النار. ومن شانه ان لا يحصل له عند المباسطة ادلال، قال تعالى ﴿مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى﴾" اه. فاشار رضي الله عنه في هذا الكلام الى جملة من اداب الحضرة مما تشير اليه هذه الاية الشريفة.

وبالجملة فهذه الاية الكريمة قد دلت على ما يضيق عنه نطاق التعبير، من كمال ادبه صلى الله عليه وسلم الدال على كمال معرفته بربه سبحانه، المعرفة التي لا مطمع فيها لاحد من الخلق كائنا من كان. وقد قيل: "ادب الانسان، دليل على قدر اتساع دائرته في مقام العرفان". وقيل في معنى الاية الكريمة غير هذا مما لا يمكننا في هذه العُجالة استيفاؤه.

وللمشايخ الكمل رضي الله عنهم من العبارات في كمال ادبه صلى الله عليه وسلم مع الحضرة الالهية ما لا يكاد يدركه حصره ولا استقصاؤه. وعلى هاتين الايتين الكريمتين، مدار كلام من عَبَّر عن ذلك من فحول الطريقتين.

ومن اجمع العبارات واوعبها في هذا الباب، عبارة شيخنا قطب الاقطاب، رضي الله عنه وارضاه، ونفعنا وسائر الاحبة برضاه. ونصها كما في [جواهر المعاني]: "اعلم انه صلى الله عليه وسلم لما كمل خلوصه الى اوطان القرب والتمكين من حضرة الله تعالى التي لا مطمع فيها لغيره. كان قائما فيها بتكميل الادب وتكميل وظائف الخدمة في كل ما برز وما يبرز من الحضرة من الاسرار والتوقعات والتجليات في ظاهر العلم وباطنه وباطن الحضرة الالهية، فلا يفتر عن ذلك مقدار طرفة عين، ولا يقع منه التفريط في حق من حقوق التجليات. كلما برز من التجليات شيء على كثرتها وعدم نهايتها يعطيه حقه من العبودية من غير اخلال ولا ضعف. ولا تزحزح مَّا عن موقف الكمال".

فان اطوار الوجود بكل ما تطور به من خير او شر، او جلب او دفع، او اعطاء او منع، او تحريك او تسكين، او تلوين، الى سائر اقسام التطورات مما يعرفه العامة في ظواهر الوجود، وما يتطور في بواطن الوجود من الارادات والتخيلات والتوهمات والخواطر والافكار، كل ذلك تجليات الحق سبحانه وتعالى باثار صفاته واسمائه. ما ثم غيره سبحانه وتعالى في كل ما سمعت. وهو صلى الله عليه وسلم في موقف كماله دائما ابدا سرمدا يعطي جميع التجليات حقها، ويوفي ادبها، وهو في كل ذلك لله وبالله". انتهى كلام سيدنا رضي الله عنه بلفظه في [جواهر المعاني].

ويكفي هذا القدر الذي ذكرناه في هذا المحل مما اشارت اليه الايات القرانية، من كمال ادب نبينا صلى الله عليه وسلم مع الحضرة الربانية.

ومما ذكروه في هذا المقام، من ادابه واداب غيره من الانبياء الكرام، عليه وعلى جميعهم من الله افضل الصلاة وازكى السلام، ادابهم الظاهرة القولية، التي هي رشحة ادابهم الباطنة القلبية.

وذلك مثل ما روى عن نبينا صلى الله عليه وسلم من قوله (زُوِِّيَتْ لِيَ الارْضُ فَارِيتُ مَشَارِقَ الارْضِ وَمَغَارِبَهَا) قالوا: "قد حفظ صلى الله عليه وسلم ادب الحضرة حيث لم يقل: فرايت".

ومثل قوله سبحانه وتعالى حكاية عن نبيه ايوب عليه الصلاة والسلام ﴿انِّى مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَانْتَ ارْحَمُ الرَاحِمِينَ﴾. قال الاستاذ ابو علي الدقاق رضي الله عنه: "قد حفظ نبي الله ايوب عليه الصلاة والسلام ادب الحضرة حيث لم يقل: ارحمني".

ومثل قوله تبارك وتعالى حكاية عن نبيه عيسى عليه الصلاة والسلام ﴿انْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَه﴾. قال الشيوخ: "قد حفظ نبي الله عيسى عليه الصلاة والسلام ادب الحضرة حيث لم يقل: لم اقُلْهُ.

الى غير ذلك من الاي الكريمة، الدالة على ادابهم الفخيمة، على جميعهم وعلى ال كل من المولى الكريم، البر الرحيم، افضل الصلاة وازكى التسليم.

واكمل الناس اقتداء بهم في هذا المقام، الصحابة الكرام، رضي الله عنهم ونفعنا بمحبتهم جميعا، ومما اثبتوه من ذلك: قول مولاتنا عائشة الصديقية رضي الله عنها لمن سالها عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان خلقه القران". قال في [العوارف]: "لا يبعد – والله اعلم – ان قول عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القران، رمز غامض، وايماء خفي، الى الاخلاق الربانية، فاحتشمت رضي الله عنها الحضرة الالهية من ان تقول: كان متخلقا باخلاق الله تعالى، فعبرت عن المعنى بقولها: كان خلقه القران، استحياء من سبحات الجلال" اه.

تنبيه

كثيرا ما يجري في اطلاقات الاكابر كالشيخ محي الدين رضي الله عنه وكذا غيره من الاكابر كشيخنا رضي الله عنه، حسبما ستقف على بعضه في هذا الكتاب ان شاء الله، ذكر التخلق بالاخلاق الالهية. ومعنى ذلك عند المحققين: ان العبد ياخذ من بعض الاسماء الحسنى، والصفات العُلا، وصفا يلائم ضعف البشر وقصوره، مثل ان ياخذ من الاسم الرحيم وصفا من الرحمة على قدر ضعف البشر وقصوره، وهكذا في سائر الاسماء التي يصح التخلق بها للعبد. وكل اشارات العارفين في الاسماء والصفات التي هي اعز علومهم على هذا المعنى وهذا التفسير. فليحذر العبد ان يميل بقصور فهمه، وتخيلات وهمه، الى شيء مما يعطيه ظاهر عبارات الكمل رضي الله عنهم من الحلول والاتحاد، فيجره ذلك، والعياذ بالله تعالى، الى الزندقة والالحاد.

ومن هذه الاداب التي اتصف بها الانبياء عليهم الصلاة والسلام، واقتدى بهم فيها اتم اقتداء اكابر الصحابة الكرام، اخذ اهل الطريق ادابهم، ومن انوارهم اقتبسوها، وعلى مذاهبهم المكينة بنوا قواعدهم في ذلك واسسوها. فعَمروا ظواهرهم وبواطنهم بحسن الادب مع اساتذهم ومشايخهم، وحافظوا على ذلك بقدر جهدهم واستطاعتهم. فاوصلهم حسن الادب مع مشايخهم الى حسن الادب مع الله تعالى ومع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع حركاتهم وسكناتهم، فظهرت بسبب ذلك جواهر حقائقهم، فاستحقوا التقدم على غيرهم، والترؤس على ابناء جنسهم.

فاما حسن ادبهم مع اساتذهم، فمن امثلته التي ينتحي المريد الموفق منحاها، وينتهج نهجها القويم مقتبسا من نور سناها، ما ذكره في [العوارف] عن ابي منصور المغربي من انه قيل له رحمه الله تعالى: "كم صحبت ابا عثمان" فقال: "خدمته لا صحبته. فالصحبة مع الاخوان، ومع المشايخ الخدمة" اه.

وهذا ينظر الى ما روي في بعض الاخبار عن سيدنا العباس عم نبينا صلى الله عليه وسلم انه قيل له: "اانت اكبر سنا ام النبي صلى الله عليه وسلم" فقال: "هو اكبر مني، وانا ولدت قبله" اه.

واما حسن ادبهم مع الحضرة القدسية العلية، فمنه ما ذكروه من ادابهم الفعلية، التي هي عنوان اداب بواطنهم المطهرة السنية.

ذكر الاستاذ ابو القاسم القشيري رضي الله عنه عن الاستاذ ابي علي رضي الله عنه انه كان لا يستند الى شيء ادبا مع الحضرة الالهية. قال: "وكان يوما في مجمع، فاردت ان اضع له وسادة خلف ظهره لاني رايته غير مستند، فتنحى عن الوسادة قليلا. فتوهمت انه توقى الوسادة لانها لم يكن عليها خرقة او سجادة، فقال: لا اريد الاستناد. فتاملت بعد ذلك فعلمت انه لا يستند لشيء ابدا" اه.

وقال السري السقطي رضي الله عنه: "صليت وردي ليلة من الليالي ومددت رجلي في المحراب، فنوديت: "يا سري كذا تجالس الملوك" فضممت رجلي، ثم قلت: "وعزتك لا مددت رجلي ابدا". قال الجنيد رضي الله عنه: "فبقي ستين سنة ما مد رجله ليلا ولا نهارا". اه.

وذكر عن السري ايضا رضي الله عنه انه سئل عن مسالة من الصبر، فجعل يتكلم فيها، فدب على رجله عقرب فجعل يضربه بابرته. فقيل له: "الا ترفعه عن نفسك" فقال: "استحي من الله تعالى ان اتكلم في حال ثم اخالف ما اعلم فيه" اه.

وحُكي عن بعض الشيوخ انه قال: "دخلت مكة، فكنت ربما اقعد بحذاء الكعبة، وربما كنت استلقي وامد رجلي، فجاءتني عائشة المكية فقالت لي: يا ابا فلان، يقال انك من اهل العلم، لا تجالسه الا بالادب، والا محي اسمك من ديوان القُرْب". قال: "وكانت من العارفات رضي الله عنها" اه انظر [العوارف].

ومن هذا ما ذكره في [جواهر المعاني] من وصف اداب سيدنا رضي الله عنه حيث قال بعد سرده لجملة من ادابه: "وما رُِيءَ قط مادّا رجله الى القبلة، وما بَصَق قط وهو جالس بالمسجد، ولا رفع به صوته، وما سمع احدا يرفع به صوته الا نهاه، وما راى احدا اخل بشيء من اداب الشريعة الا نبهه، ويقول له اذا كان له معرفة بها على سبيل الانكار والتوبيخ: اهكذا ورد في السنة" اه.

وانظر ما يشير الى بعض ادابه رضي الله عنه مع حضرة الله تعالى وحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا مع اولياء الله تعالى في [جواهر المعاني] وغيره تعثر على معرفة حقيقة الادب، وتر من ذلك ما تُقَضِّي منع العجب.

ويكفي من ادابه مع الحضرة العلية، اخذه بكمال الاحتياط في الطهارة ثوبيَّة ومكانيَّة وبدنيَّة، وامره بذلك في جميع العبادات والتوجهات فعلية كانت او قولية، وذلك مع الشائع الذائع عنه وعن اصحابه رضي الله عنه، وكذلك اخذه بالاحتياط في جميع المعاملات الدينية والدنيوية، مما لا يسعنا الان تفصيل بعضه فضلا عن كله.

ويكفي في كمال ادبه مع حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم مبالغته في تعظيم اهل البيت الطاهر، ولهجه دائما بما خصهم الله به من سني المحامد وفاخر الماثر، وحضه على ذلك في سائر اوقاته واحواله، وحثه الناس على امحاض الود لهم ودلالته على ذلك بالسنة حاله ومقاله.

فكان رضي الله عنه يكرم الداخل منهم عليه باسمى المجالس واخصها، ولا يترك احدا منهم يجلس بادناها واخسها، وما ترك احدا منهم يجلس بازاء رجليه او في محل امتهان، على اي حال كان. ولم يكن رضي الله عنه يساوي بخصوصيتهم الذاتية خصوصية، ولا بمزيتهم الاصلية مزية. وسياتي بعض ما يتعلق بهذا اثناء الشرح ان شاء الله تعالى.

ويكفي في كمال ادبه مع اولياء الله تعالى حضه على تعظيمهم وتوقيرهم، احياء كانوا او امواتا، وعدم مسامحته في الاستهزاء بهم، والاستهانة بقدرهم. وكان ينهى من يسكن بجوار واحد منهم ان يمد رجليه الى جهته، ولو اداه ذلك الى مخالفة ما جرت به العادة في نوم الناس في محالهم، كان يجعل راسه الى باب البيت مثلا. لا يغفل عن ذلك رضي الله عنه ابدا.

وقد اخبرني بعض الافاضل من اعيان اصحابه رضي الله عنه انه اتفقت له السكنى بدار مجاورة لضريح مولانا ادريس رضي الله عنه على عهد الشيخ رضي الله عنه، وكان البيت المعد للسكنى من تلك الدار مقابلا للضريح المعظم. فلما اعلم الشيخ رضي الله عنه بذلك اعظمه غاية، لان من لازم من نام بذلك البيت ان يمد رجليه الى جهة الضريح الابرك. ثم اكد رضي الله عنه على الصاحب المذكور ان لا يمد رجليه الى ناحية الضريح في نوم ولا يقظة. وبعد مدة يسيرة ادخلت الدار المذكورة في المسجد الادريسي، فكان بعض المحبين يرى ان ذلك من اثر تحرك همة الشيخ لذلك. ولا بعد فيما راه هذا المحب عند من فتح الله بصيرته، ورزقه الايمان الكامل بكرامات اولياء الله تعالى، والهم التصديق بان الاشياء تنفعل لتحرك هممهم العوالي، باذن مولى الموالي، سبحانه وتعالى.

هذا، ولو تتبعنا ما نقل عن المشايخ رضي الله عنهم في هذا الباب، واستوعبنا ذكر ما اتصف به سيدنا رضي الله عنه من سني الاداب، لخرجنا الى حد الاطناب. مع ان القصد انما هو الالمام بشيء مما عسى ان يكون للناظر في هذا الكتاب. تنبيها وتذكرة، واعانة له على ما هو بصدده من فهم مسائل هذا النظم وتبصرة. والله تعالى المستعان، وعليه سبحانه التكلان.

الحاق

مما ينبغي ان يندرج في هذا المطلب وينساق، ما حكاه في [العوارف] عن الشِّبْلي رضي الله عنه من قوله: "الانبساط بالقول مع الحق ترك الادب". يريد رحمه الله تعالى في بساط الدعاء والطلب. قال فيها اعني [العوارف]: "وهذا يختص ببعض الاحوال والاشخاص دون البعض، وليس على اطلاقه، لان الله تعالى امر بالدعاء" اه.

وقال الشيخ زروق رضي الله عنه بعد ذكره ما ورد في حق الخليل عليه الصلاة والسلام حين زُجَّ به في الْمِنْجَنيق فتلقاه جبريل عليه السلام وقال له: "الك حاجة" فقال: "اما اليك فلا، واما الى الله فبلى"، فقال له: "اذن فاساله"، قال: "حسبي من سؤالي، علمه بحالي"، ما نصه: "وهو طريق العارفين عند تعذر الاسباب، اعني الرجوعَ الى الله تعالى بالاستسلام وترك الطلب، بخلاف حال قبول المُحل الاسباب، فان العمل بها حينئذ مطلوب". قال: "واعتبر ذلك بامر ام موسى عليه السلام بالقائه في البحر، واجابة الملائكة للوط عليه السلام بقولهم ﴿قَدْ جَاءَ امْرُ رَبِّكَ﴾ عند قوله لقومه ﴿لَوْ انَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾ الاية، فهو صلوات الله عليه اراد مقابلتهم بالاسباب، فاجيب بنفوذ الامر وانه لا محل لها. ولذلك اشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (يَرْحَمُ اللهُ اخِي لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَاوِي الَى رُكْنٍ شَدِيدٍ) على معنى ان ترحمه عليه انما كان لظنه ان الاسباب بقي لها محل لا كما فهمه من لا حقيقة عنده.

تم قال: "والتوجهات ثلاثة:

اولها: التوجه بالاستسلام، وذلك عند تعذر الاسباب كما تقدم.

الثاني: التوجه بالسؤال والطلب، وذلك عند انشراح الوقت وجريانه بالمعتاد، وفي موقف تذكير النفس بالافتقار والاضطرار عند غفلتها عن التوحيد، او يكون البساط بساط تعليم او تذكير ونحوه.

الثالث: التوجه بالتعريض، وذلك حين يغلب حسن الظن، والاكتفاء بالعلم، وتحقيق التوحيد، والاشتغال بالذكر. كقول سيدنا ابراهيم عليه السلام ﴿وَالَّذِي اطْمَعُ انْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾، وكقول سيدنا موسى عليه السلام ﴿رَبِّ انِّي لِمَا انْزَلْتَ الَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾، وكقول نبينا صلى الله عليه وسلم (لا غِنَى لِي عَنْ عَافِيَّتِكَ، عَافِيَّتُكَ اوْسَعُ بِي) اه كلام الشيخ زروق رضي الله عنه.

ولا يخفى ان كل توجه لحال او وقت هو الادب في تلك الحال او ذلك الوقت. وبهذا الذي نقلناه عن الشيخ زروق رضي الله عنه يظهر ما اشار اليه الشِّبلي رحمه الله تعالى ورضي عنه، ويعرف انه ليس على اطلاقه كما تقدم عن صاحب [العوارف].

نعم يحتاج التوجه بالسؤال والطلب الى اداب تخصه:

 - منها الاخلاص: قال تعالى ﴿وَمَا امِرُوا الا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ﴾ الاية. قال في [تَهذيب الاذكار]: "واخلاص الدعاء الى الله تعالى ان يُخْلِصَ الدعاء عما يشوبه من الحظوظ، وان يفرد الله تبارك وتعالى في القصد بانه المعطى لا غيره.

 - ومنها ان ياتي في دعائه بما يشعر بعظمة الربوبية، وذلة العبودية. قال الشيخ زروق رضي الله عنه: "كل دعاء لا يشعر صاحبه فيه بعظمة الربوبية، وذل العبودية، فهو تلاعب. وبه اجيب عن عدم انتفاع كثير من الناس بالادعية والاذكار الصحيحة الوعد بالاجابة، المجربة النفع عند اهل الصدق والاخلاص".

 - ومنها الاكتفاءُ بعلم الله تعالى مع حسن الظن به والتفويض اليه في الاجابة والعطاء. وقد نقل الشيخ زروق رضي الله عنه عن بعضهم انه قال: "من لم يكن في دعائه تاركا لاختياره، راضيا باختيار الحق تعالى، فهو مُسْتَدْرَجٌ، وهو ممن قيل له: اقضوا حاجته، فاني اكره ان اسمع صوته". فان كان مع اختيار الحق سبحانه وتعالى لا مع اختياره لنفسه كان مجابا وان لم يعط، والاعمال بخواتمها" اه.

وذكر في [جواهر المعاني] عن شيخنا رضي الله عنه انه كان اذا دعا لنفسه او لاحد بشيء مما كان مجهول العاقبة او فيه حظ كان دعاؤه طلبه الخِبَرة من الله تعالى. وكان يقول المرة بعد المرة: "لا ادعو الا بلساني، وقلبي مستسلم لله تعالى، واقول: لا اريد شيئا، ولا اختار شيئا، تفعل ما تشاء، وتحكم ما تريد".

وتارة اذا طلبه احد في الدعاء يمتنع منه ادبا مع الحق سبحانه واكتفاء بعمله واختياره لعبيده. وهذا كله فيما هو مشوب بالحظوظ.

واما الدعاء على وجه العبودية فقد كان لا يزال لَهِجا به، رطبا به قلبه ولسانه، لانه مامور به شرعا.

وكان اكثر دعائه لمن ساله في الدعاء: "الله يُقْبِلُ عليك بمحض فضله ورضاه" اه. وفي هذا الدعاء من التحقق بوصف العبودية، والاستشعار لعظمة الربوبية، مع ما فيه من كمال النصح وحسن التربية، مالا يخفى، لاشتماله على جميع المطالب الدنيوية والاخروية، مع الاعتماد في جميعها على ما يبرز من الحضرة الفضلية.

وراجع اداب شيخنا رضي الله عنه في [جواهر المعاني]، وتامل ما اشتملت عليه رسائله ومخاطباته من ادعيته لمن يخاطبه، ترى مما خصه الله تعالى به من محاسن الادب، ما يشهد العقل والنقل بانه لا يتاتى مثله الا للخاصة العليا من اهل الرتب، رضي الله عنه وارضاه، ومتعنا والاحبة في الدارين برضاه امين.

واعلم انه قد تحصل مما ذكره في [جواهر المعاني] من عمل سيدنا رضي الله عنه في الدعاء على اختلاف الاحوال فيه، ان الدعاء ينقسم الى ثلاثة اقسام، ولكل قسم منها ادب يخصه:

 - القسم الاول: الدعاء بما كان مجهول العاقبة، والمراد به ما لم تتبين مصلحته للعبد. وقد افاد عمل سيدنا رضي الله عنه ان الادب فيه هو ان يكون بطلب الخِيَرَة من الله تعالى، وهو واضح، والتحقق فيه بوصف العبودية بَيِّنْ.

 - القسم الثاني: الدعاء بما كان مشوبا بحظ النفس، وهو طلب الحوائج من الله تعالى اعني الحوائج التي تبين للعبد ان له فيها مصلحة. وقد افاد عمل سيدنا رضي الله عنه ان يطلب ذلك الشيء على التعيين مع التفويض والاستسلام، وترك مراد العبد الى مراد سيده، واختياره الى اختياره سبحانه وحكم مشيئته، مع رؤية التاثير من الله تعالى لا من نفس الداعي، وهذا هو دعاء اهل اليقين.

قال الشيخ المحدث العارف بالله سيدي محمد بن علي الترمذي رضي الله عنه في [نوادر الاصول]: "واما اهل اليقين فانهم يدعون ويلحون، وهم في ذلك ساكنون مطمئنون، منتظرون مشيئة الله، فاذا اجاب قبلوا، وان تاخر صبروا، وان منع رَضُوا واحسنوا الظن، كما قيل: منع الله اياك، عطاء منه لك، وذلك انه لم يمنعك من بخل ولا عَدْم" اه نقله في [شرح عدة الحصن الحصين].

وبهذا الادب يصير الداعي متعبدا لله تعالى في عين طلبه لحاجته، فلا يؤثر في عبادته اذ ذاك حظ نفسه.

ومما يزيد هذا القسم بيانا وايضاحا ما ذكره الشيخ ابو عبد الله بن عباد الرّندي في رسائله: ونصه: "ان الوجه في وقوع الدعاء، يعني طلب الحوائج من الله تعالى، على وجه العبودية، ان تكون في حال دعائك طالبا من الله تعالى شيئا رايت ان لك فيه مصلحة من غير ان تدعيَ استغناءً عن ذلك ولا سخاوة نفس به، ومن غير ان ترى دعائك سببا موجبا لحصول ذلك الشيء المطلوب دون الحكم الازلي. وهذا لا ينافي كونك راضيا، مفوضا، متوكلا. كما لا ينافي ذلك التسبب والتكسب اذا كان بحيث لا يتغير قلبك ولا يضطرب عند عدم افضاء سببك الى مطلبك". ثم قال: "ولا يضرك ما يَفْجَؤُك اولا بمقتضى الطبع من بغضك لعدم حصول مطلبك، اذ ذاك لا يثبت ولا يلبث ان ينهزم ويزول بما يُكَرُّ عليه من وجود ايمانك ويقينك ومعرفتك، ويكون بمنزلة الطائف الذي ينهزم بالتذكر". اه نقله في الشرح المذكور بمعناه عن شيخ شيوخه العارف بالله ه.

قلت: وهو حسن في بابه، مفيد جذا في ايقاع السؤال والطلب على الوجه الاكمل المرضي شريعة وطريقة وحقيقة حيث اشتمل على امتثال الامر بالدعاء، وعلى ترك دعوى النفس الاستغناء عن الشيء المطلوب، وعلى رؤية التاثير للقدرة الالهية والحكم الازلي مع الرضى التام، والله تعالى اعلم. والى هذا اشار ما ذكره في [الحلية] عن محمد الباقر رضي الله عنه انه قال: "ندعوا الله تعالى بما نحب، فاذا وقع ما نكره احببنا ما احب" اه.

القسم الثالث: الدعاء على وجه العبودية المحضة تعبدا لله تعالى، وتقربا اليه سبحانه وتعالى، من غير ان يشوب ذلك حظ. وهو التوجه الى الله تعالى بالدعوات المشتملة على اوصاف العبودية من اظهار فاقة وافتقار، او عجز واضطرار، على وجه التضرع والخضوع الى الله تعالى، وعلى طلب التوبة والمغفرة، والقبول والرحمة منه سبحانه وتعالى.

 وعلى هذا القسم كان عمل من ادركناه من اصحاب الشيخ رضي الله عنهفي جميع الاحزاب والادعية، وعليه كانوا يحضون، وفيه كانوا يرغبون. وراينا الفضلاء المعتبرين منهم يكرهون ان يذكر المريد شيئا من الادعية والاحزاب المتداولة في الطريق، كالسيفي، وحزب البحر، وغيرهما بينة شيء من الخواص، ويصرحون بان طريقنا ان نذكر ذلك تعبدا لله تعالى، وتقربا اليه وطلبا لمرضاته لا غيره.

وفي هذا القدر مما رمنا الاشارة اليه في هذا المطلب كفاية، والله ولي التوفيق والهداية.

بغية المستفيد لشرح منية المريد

Centro de Estudio y Difusión de la Vía Tiŷāniyya