Índice

Presentación

Introducción al sufismo

La vida de Šayj Aḥmad al-Tiŷānī

Las condiciones de la Vía Tiŷāniyya

El método de la Vía Tiŷāniyya

Los favores de la Vía Tiŷāniyya

La Fayḍa Tiŷāniyya

Šayj Ibrāhīm Nyasse

Šayj cAbda-l·lāh Djā

Enseñanzas de la Vía Tiŷāniyya

Súplicas de la Vía Tiŷāniyya

Lengua árabe

Fiqh Mālikī

Noticias

Multimedia

Enlaces

Contactar

بغية المستفيد

لشرح منية المريد

 

تأليف

سيدي العربي بن السائح الشرقي العمري التجاني


مقدمة

تشتمل على سبعة مطالب مهمة


المطلب الثاني

فِي بَعْضِ مَا يُشِيرُ الَى حَقِيقَةِ الادَبِ عَلَى جِهَةِ الاجْمَالِ، وَبَيَانُ مَنْشَاهِ وَمَكَانَتِهِ مِنْ طَرِيقِ اهْلِ الكَمَالِ.


لما كانت هذه الطريقة الاحمدية، مشتملة من محاسن الاداب على ما لا تكاد تحيط به العقود العددية، وكان غالب مسائلها التي ينكرها البلداء الاغبياء، مبنيا على كمال الادب وتحقيقه في نظر النبهاء الاذكياء، احببت ان يكون هذا المطلب من جملة ما يتقدم في هذا التقييد امام جميع مسائله، ليكون كالغرة في وجه مقاصده ووسائله. فاقول وبالله التوفيق، والهداية الى مسالك الايضاح والتحقيق:

اعلم ان المشايخ الكاملين، والعارفين المحققين الواصلين، قد اتفقوا على ان الادب في طريق اهل الله تعالى اكد كل امر، وجمّاع كل خير وبر، ونظام انواع الطاعات والاعمال، وملاك جميع المقامات والاحوال, ونصوا على ان من لازم سلوك سبيله في جميع ذلك وصل واتصل، ومن حاد عن نهجه في شيء منه انقطع وانفصل. وذلك لان الطريق كما قيل: اداب كلها، لكل وقت ادب، ولكل حال ادب، ولكل مقام ادب. فمن لَزِم الادب يبلغ مبلغ الرجال، ومن حُرِم الادب فهو بعيد من حيث يظن القرب، مردود من حيث يرجو القبول. اه. الى غير هذا مما سنورده ان شاء الله تعالى في هذا الباب من صريح عباراتهم، وواضح اشاراتهم.

فاما ما يشير الى حقيقة الادب عند اهل الله تعالى، والاصل الذي اعتمده المشايخ رضوان الله عليهم فيما عبروا به عن حقيقته هو ما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (ادبني ربي فاحسن تاديبي، ثم امرني بمكارم الاخلاق)". الحديث.

قال في [العوارف]: "الادب تهذيب الظاهر والباطن، فاذا تهذب ظاهر العبد وباطنه صار اديبا". قال: "وسميت المادبة مادبة لاشتمالها على الاشياء الحسنة. فلا يتكامل الادب في العبد الا بتكامل مكارم الاخلاق فيه" اه.

وقال الشيخ محي الدين رضي الله عنه: "الادب جماع الخير. وهو ينقسم الى اربعة اقسام في اصطلاح اهل الله تعالى:

القسم الاول: ادب الشريعة:

وهو الادب الالهي الذي يتولى الله تعالى تعليمه بالوحي والالهام، به ادَّبَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم، وبه ادبنا صلى الله عليه وسلم، فهم – يعني الانبياء عليهم الصلاة والسلام – المؤدِّبون المؤدَّبون، وفي الحديث (انَّ اللهَ ادَّبَنِي فَاحْسَنَ تَادِيبِي).

القسم الثاني : ادب الخدمة:

وهو ما اصطلحت عليه الملوك في خدمة خدمها، وملكُ اهل الله هو الله تعالى. وقد شرع لنا كيفية الادب في خدمته، وهو معاملتنا اياه فيما يختص به دون خلقه. فهو خصوص في ادب الشريعة لان الشريعة جامعة لحق الله تعالى وحق الخلق.

القسم الثالث: ادب الحق :

وهو الادب مع الحق في اتباعه عند كل من يظهر عنده ويحكم به، فترجع اليه وتَقْبَلُه ولا ترده، ولا تحملك الانفَة ان كنت ذا كِبَر في السن او المرتبة ان لا تقبل الحق ممن هو اصغر منك سنا او قدرا. وهذا هو الانصاف.

القسم الرابع : ادب الحقيقة:

وهو ترك الادب بعَنَائك، ورد ذلك كله الى الله تعالى" اه.

قلت: وقوله: ترك الادب الخ المراد ترك شهوده، لا ترك وجوده، كما هو مصطلح الشيخ في جميع التروك المترجم لها في كتابه الفتوحات المكية، والله تعالى اعلم.

ونقل بعض [شراح الرسالة] عن بعضهم في حقيقة ادب اهل الله تعالى انه: "ضبط الحواس، ومراعاة الانفاس، والاشتغال بالتفكر في مصنوعات الله تعالى" اه.

ونقل في [العوارف] عن عبد الله بن المبارك انه قال رضي الله عنه: "قد اكثر الناس في الادب، ونحن نقول: الادب معرفة النفس" اه. ثم قال اثره: "هذه اشارة منه رحمه الله تعالى الى ان النفس منبع الجهالات، وترك الادب من مخامرة الجهل، فاذا عرف العبد النفس صادف نور العرفان، على ما ورد: من عرف نفسه فقد عرف ربه. ولهذا النور لا تظهر النفس بجهالة الا ويقمعها بصريح العلم وحينئذ يتادب" اه.

وفي كلام غير واحد من المشايخ الكبار في تفسير هذا الخبر ما يوضح ما ذكره في [العوارف] عن سيدنا عبد الله بن المبارك مع ما فسره به.

قال الشيخ محي الدين النووي رحمه الله تعالى في فتاويه: "معناه: "من عرف نفسه بالضعف والافتقار الى الله تعالى والعبودية له عرف ربه بالقوة والربوبية والكمال المطلق والصفات العليا" اه.

وقال الشيخ تاج الدين بن عطاء الله رحمه الله تعالى في لطائف المنن: "سمعت شيخنا ابا العباس المرسي رضي الله عنه يقول: في هذا الحديث تاويلان:

-   احدهما: من عرف نفسه بذلها وعجزها وفقرها عرف الله بعزه وقدرته وغناه. فتكون معرفة النفس اولا ثم معرفة الله من بعد.

-   والثاني: من عرف نفسه فقد دل ذلك منه على انه عرف الله قبل.

فالاول حال السالكين، والثاني حال المجذوبين" اه.

وقال الشيخ ابو طالب المكي رضي الله عنه في قوت القلوب: "معناه: اذا عرفت صفات نفسك في معاملة الخلق وانك تكره الاعتراض عليك في افعالك وان يعاب عليك ما تصنع عرفت منه صفات خالقك وانه يكره ذلك، فارض بقضائه، وعامله بما تحب ان تعامل به" اه.

وقول الشيخ ابي طالب هذا في كتاب [القوت] الذي هو مدونة الصوفية اصرح في المراد، وان كانت هذه الاقوال كلها تتسابق الى المرمى الذي قصدناه تسابق خيل الطّراد، والله تعالى اعلم.

وقد ذكر هذه الاقوال كلها الشيخ جلال الدين السيوطي رضي الله عنه في جوابه عن هذا الحديث بعد ان قال فيه انه: ليس بصحيح ونقل عن النووي انه قال في فتاويه: "ليس بثابت". وذكر عن الزَّرْكَشيِّ انه قال فيه في الاحاديث المشتهرة: "ذكر ابن السمعاني انه من كلام يحيى بن معاذ الرازي" اه.

رجع وقال ابن عطاء: "الادب: الوقوف مع المستحسنات. قيل له: ما معنى ذلك؟ قال: ان تعامل الله سرا وعلانية بالادب، فان كنت كذلك كنت اديبا وان كنت اعجميا؟. ثم انشد:

 

اذا نطقت جاءت بكل مليحة

 

 

وان سكتت جاءت بكل مليح"

 

ذكره في [العوارف].

وما احسن قول بعضهم في الادب: "الادب ان يؤدب العبد ظاهره وباطنه. اما ظاهره فبالشريعة بان يتبع السنة قولا وفعلا، واما باطنه فبالحقيقة بان يرضى بما يرد عليه من الله، ويتلقاه بالقبول، ويرى ان الكل نعمة عليه من الله تعالى اما عاجلة واما اجلة، فالعاجلة بلوغ النفس محبوبها عاجلا، والاجلة كانواع المضار والمكاره فانه يثاب عليها اجلا ويحط بها عنه من خطيئاته. فهي نعمة بهذا الاعتبار" اه.

وصاحب هذا الادب هو المخصوص برؤية النعم في طي النقم، فيرى نعم الله تعالى عليه ظاهرة وباطنة. قال العارف بالله سيدي عبد الرحمان بن محمد الفاسي رضي الله عنه في حاشيته على شرح الشيخ ابي عبد الله السنوسي لعقيدته الصغرى ما نصه: "قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: ﴿واسبغَ عليْكُمْ نِعَمَهُ ظاهرَةً وباطِنَةً﴾ كل ما يتلذذ به البرايا نعمة ظاهرة، وما شق عليهم من البلايا نعمة باطنة. اه بلفظه.

وحاصل هذه العبارات التي عبر بها هؤلاء المشايخ الكمل رضي الله عنهم في بيان حقيقة الادب يرجع الى ان المراد بالادب ما تحسن به حالة العبد فيما بينه وبين الله تعالى، وفيما بينه وبين ملائكته سبحانه، وكتبه ورسله، وسائر الناس على اختلاف طبقاتهم وانواعهم. وعلى هذا فلا يخرج الادب عند التامل عن الاقسام الاربعة التي ذكرها الشيخ محي الدين رضي الله عنه. ولا تخرج هذه الاقسام الاربعة عن قسمين: ادب الفقهاء وادب الصوفية. ويندرج الاول منهما في الثاني فتصير الى قسم واحد حسبما افصح به في [جواهر المعاني]، ونص كلامه فيه رحمه الله تعالى: "والادب عند الفقهاء عبارة عن القيام، بما بعد الواجبات والسنن من الفضائل والرغائب المتعلقة باحوال الانسان من نوم ويقظة، واكل وشرب، وذكر ودعاء، ونحو ذلك. وعند الصوفية عبارة عن جميع خصال الخير، واوصاف البر. فهو وصف جامع لصفات مجيدة، واخلاق حميدة، تناسب اوصاف العبودية، وجلال الربوبية. من جمعها كان اديبا متادبا مع الله تعالى ومع رسوله صلى الله عليه وسلم". ثم قال: "والادب بالمعنى الاول مندرج في هذا" اه.

وبهذا يُعرف ان الحديث السابق وهو قوله صلى الله عليه وسلم (ادَّبَنِي رَبِّي فَاحْسَنَ تَادِيبِي، ثُمَّ امَرَنِي بِمَكَارِمِ الاخْلاقِ). اصل جامع لجميع هذه العبارات، مستوف لسائر هذه التقسيمات والاشارات، ويُعلم ان الادب هو الجمع لمكارم الاخلاق والفعال، ومحاسن الصفات والخلال، على اتم ما يمكن من وجوه الكمال، في حق الله تبارك وتعالى وفي حق عبيده على التفصيل والاجمال، مع الوقوف في ذلك كله عند الحد المحدود فيه شرعا. فلا يُرتكب في شيء منه اداب العامة التي تبعدهم عن الله تعالى ﴿وهُمْ يَحْسِبُون انَّهُمْ يُحْسِنونَ صُنْعا﴾.

وقد كان سيدنا رضي الله عنه – كما في [جواهر المعاني] – لا يحب ارتكاب شيء منها اصلا اقتصارا منه رضي الله عنه على ما ورد في الشريعة، وتخلقا باخلاق السنة الرفيعة.

واذا عرف ان هذا الحديث الشريف اصل لجميع العبارات في الادب على ما قُرّر، وعلم من ذلك ان الادب هو الجمع لمكارم الاخلاق ومحاسن الصفات على ما بُيّن وسُطّر، فيجب ان يُعلم ان منبع جميع الاداب المرضية، السجايا الصالحة المركبة في طبائع النفوس الزكية.

ولا شك ان السجية، باتفاق من اهل العلوم والنظر، هي فعل الله تعالى المحض الذي ليس شيء منه في طوق البشر. ولكن الله تعالى بنافذ قدرته، وصالح مشيئته، وبالغ حكمته، جعل لمن اهله من عباده للهدى والصلاح، وهياه بفضله وكرمه للرشد والفلاح، استخراجَها بطريق الرياضة والتربية، واكتسابها من جهة المجاهدة والتزكية. وذلك – كما قاله في [العوارف]: "لان الله تعالى خلق الانسان وهياه لقبول الصلاح والفساد، وجعله اهلا للاداب ومكارم الاخلاق. ووجود الاهلية فيه كوجود النار في الزناد، ووجود النخل في النوى. ثم ان الله تعالى بقدرته الهم الانسان ومكنه من اصلاح النوى بالتربية الى ان يصير نخلا، والزناد بالعلاج حتى تخرج منه نار. وكما جعل سبحانه في الانسان صلاحية الخير والشر احال الاصلاح والافساد عليه، فقال تعالى: ﴿ونَفْسٍ ومَا سَوَّاها فالْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْواهَا﴾، فتسويتها بصلاحيتها للشيئين جميعا. ثم قال تعالى ﴿قدْ افْلَحَ مَنْ زكَّاها وقَدْ خابَ مَنْ دَسَّهَا﴾. فاذا تزكت النفس تدبرت بالعقل، واستقامت احوالها الظاهرة والباطنة، وتكونت الاداب" اه.

وهذا الذي ذكره من ان الله تعالى احال الاصلاح والافساد على الانسان كما دلت عليه الاية الكريمة هو المذهب الحق، والقول الاصح، من ان تبديل الاخلاق ممكن مقدور عليه، خلافا لمن منع مستدلا بظاهر قوله تعالى ﴿لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله﴾، وبظاهر حديث (فرغ ربك من اربع)... الحديث.

واستُدل لهذا القول – اعني القول بان تبديل الاخلاق ممكن الخ – بهذه الاية، اعني قوله تعالى: ﴿قَدْ افْلَحَ من زَكَّاها وقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها﴾، وكذا بقوله سبحانه ﴿يَا ايُّها الذينَ امَنُوا قُوا انْفُسَكُمْ واهْليكُمْ نَارا﴾. فقد رُوِيَ عن ابن عباس رضي الله عنهما انه قال في تفسيرها: "فقهوهم وادبوهم" اه. ومما استُدل به له ايضا قوله صلى الله عليه وسلم (حَسِّنُوا اخْلاقَكُمْ)... الحديث، وانظر [العوارف].

نعم، قد تقع الاداب في حق بعض الاشخاص – كما قاله فيها ايضا – من غير تزكية ولا رياضة لقوة ما اودع الله تعالى في غرائزهم قال: "ومن يحتاج اليها من الناس فانما يحتاج اليها لنقصان قوة اصولها في الغريزة. ولهذا احتاج المريدون الى صحبة المشايخ لتكون الصحبة والتعليم عونا على استخراج ما في الطبيعة الى الفعل" اه. ملخصا.

ومدار التربية والتزكية، في طريقنا هذه المحمدية الشريفة المرضية، على:

 - اقامة الورد الاصلي المعلوم، الذي لا يصح الدخول فيها بدونه لاحد من الخصوص ولا من العموم، وكذا توابعه من الاذكار المشمولة باللزوم معه، وهي الوظيفة المعروفة وذكر الهيللة بعد عصر يوم الجمعة، بالمحافظة في جميع ذلك على الشروط المشروطة، والاداب التي هي بغاية الحسن ونهاية الكمال منوطة. واكد الشروط واعظمها: المحافظة على الصلوات الخمس بادائها على الحد المحدود لها شرعا بقدر الامكان، واستكمال شروطها وادابها، واتمام جميع مالها من الاركان.

 

 - ثم عمارة ما يُقْدَرُ على عمارته من الاوقات والساعات، بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم خصوصا بصلاة الفاتح لما اغلق التي هي من اسمى الذخائر واسنى البضاعات، على طريق المحبة، والشكر، والاعتماد على الفضل المحض الذي ليس الا عليه في بساط التحقيق المعول، من غير التزام خُلوة، ولا كثرة مجاهدة، ولا غير ذلك مما اصطلح عليه في التربية من بَعْدِ الصدر الاول. اذ هذه هي طريقة سيدنا رضي الله عنه التي سلكها وامره بالتسليك بها سيد الوجود، ومنبع الامداد والجود، صلى الله عليه وسلم.

وفي [جواهر المعاني] انه صلى الله عليه وسلم، بعدما اعلم سيدنا رضي الله عنه بانه هو الواسطة بينه وبين الله تعالى والمدد له على التحقيق، وصرح له بانه هو كفيله ومربيه دون غيره من مشايخ الطريق، واخبره انه لامنة لواحد منهم عليه، لان جميع ما يصله من الله تعالى فعلى يده صلى الله عليه وسلم وبواسطته ومنه اليه، قال له في وصيته التي اوصاه بها: "الزم هذه الطريقة من غير خُلوة ولا اعتزال عن الناس حتى تصل مقامك الذي وعدت به وانت على حالك من غير ضيق ولا حرج ولا كثرة مجاهدة" اه. ويرحم الله تعالى العارف البوصيري حيث قال في [داليته]:

 

والفضل ليس يناله متوسل
ان قال ذاك هو الدواء فقل له
يمشي المصرَّف حيث شاء وغيره
من كان منك بمنظر وبمسمع

 

 

بتورع حَرِج ولا بتَزَهُّد
كُحْلُ الصحيح خلاف كحل الارمد
يمشي بحكم الحجْر مَشْيَ مُصَِفد
الحََال منه على حديث مسند

 

وقد اشار الى ذلك العلامة الشهير، العارف الكبير، سيد عبيدة بن محمد الصغير، مؤلف كتاب [ميزاب الرحمة الربانية] في [لاميته] التي امتدح بها سيدنا رضي الله عنه فقال:

 

بلا خُلوة ربي وربوا بخلوة

 

 

فشتان ما بين اليزيدين مِنْ هَلا

 

ومرادنا يكون التربية في هذه الطريق، خالية عن التزام الخلوة والاعتزال عن الناس، ونحو ذلك مما فيه تشديد على النفس وتضييق، التنبيه على ان التربية فيها جارية على طريقة السلف الصالح من الصدر الاول التي هي الطريقة الاصلية، وهي طريقة الشكر والفرح بالمنعم سبحانه والرياضة القلبية، لا على الطريقة الاخرى التي استنبطها واصطلح على التسليك بها مِنْ بعدِ القرون الثلاثة نظرا لما اقتضته العوارض الوقتية، وهي طريقة المجاهدة والمكابدة والرياضة البدنية.

وفرق بينهما: بان السير في الاولى سير القلوب، وفي الثانية سير الابدان. ومعلوم ان الاهم الذي عليه المدار في طريق الوصول الى حضرة الله تعالى هو سير القلوب، بالنظر في احوال القلب، وما يصلحه، وما يفسده على سَنَن الاعتدال، والتقييدُ بالشريعة المطهرة، والسنة الشريفة المنورة، لا على التضييق على النفس بالتقشف، والاستخشان في الماكل والملبس، والكد والتعب، من غير التفات الى احوال القلب على الحد الذي تقرر.

وانما اثر مَنْ بَعدَ القرون الثلاثة التسليكَ بالطريقة الثانية لما كثرت الاهواء، وتشعَّبت الاراء، فاستعانوا بذلك على تطهير النفس وتزكيتها، ليستنير القلب، ويتخلص من كدورات الهوى. وقد حذروا مع ذلك من الغلو فيه بالخروج عن حد الاتباع، الى حد الابتداع.

قال الشيخ ابو عبد الله بن عباد رحمه الله تعالى: "وليس طريق تزكية النفس بقطع جميع الارفاق عنها، وردها الى الاجتزاء باكل الحشيش والنخالة، والمبالغة في التقشف والتقلل، مع قطع النظر عن احوال القلب، وهممه، وقصوده، وارادته، وترك الالتفات الى ما يمدح منها وما يذم. فذلك كله غلو وبدعة. وقد غَلِطَ في هذا طوائف من الناس عملوا عليه في رياضاتهم ومجاهداتهم، ولم يقصدوا بذلك اخلاص العبودية لربهم. فادَّاهم ذلك الى اختلال عقولهم، وانحلال قوى ابدانهم، ولم يَحْصُلوا من امرهم على فائدة. وذلك لجهلهم بالسنة، وما كان عليه سلف الامة" اه.

وفرق ايضا بين نتائجها: ويكفي ان الفتح في الاول هُجُومي، لم يحصل من السالك تشوف اليه، بخلافه في الثانية. وشتان ما بينهما.

وسياتي لنا من مزيد بسط الكلام في التربية والتزكية، بهذه الطريقة الاحمدية، ما تقرّ به العيون، وتبتهج به الارواح، وتستنير به القلوب. بفضل مولانا الملك الفتاح.

فبالسلوك على هذا السبيل الاحمد، والطريق الاقصد، يفيض في قلب السالك من الانوار الوهبية، ما يحمله على محاسن الاداب، ويقف به من اداء الحقوق الحقية والخلقية على عين الصواب، فيصير اديبا متادبا بافاضة فيض كرم الله تعالى ومنه، وتوفيقه الجميل وعونه.

هذا، ولسنا نريد بكون التربية في طريقنا من غير خلوة ولا مجاهدة انا لا ناخذ النفس بشيء من ذلك، ولا نعرّج في طريق السير والسلوك على شيء مما هنالك، كما قد يتبادر لذهن الضعيف الفهم، او يحمله عليه المتعسف المولع بالاستناد الى الوهم. كلا، ومعاذ الله. وانما مرادنا انا لا نلتزم في سلوكنا الرياضة بطريق المجاهدة على القانون الذي استنبطه واصطلح عليه مِنْ بعدِِ القرون الثلاثة كما هو مقرر في محاله.

والا فالاخذ في الجملة بما ذكر من الخلوة والصمت والاعتزال، وغيرها مما دلت عليه السنة المطهرة من سنيء الخلال، مؤكد عند شيخنا رضي الله عنه غاية التاكيد، مرغب فيه غاية الترغيب.

ومن ترغيبه فيه، وحضه على العمل به، ما في [جواهر المعاني] في الرسالة التي كتب بها رضي الله عنه الى بعض فقهاء زاوية زرهون – عمرها الله بذكره – جوابا عن كتاب كتب به اليه رضي الله عنه، ولفظه فيه رضي الله عنه: "واما ما ذكرت من صعوبة انقياد نفسك عليك لامر الله، ودوامها على التخبط فيما لا يُرْضى، فتلك عادة جارية اقامها الله تعالى في الوجود لكل من اهمل نفسه وتركها جارية في هواها ان لا يسهل عليه سبيلا الى القيام بامر الله، بل لا يرى منها الا الخبث والمعاصي والخروج عن امر الله.

ومن اراد تقويم اعوجاج نفسه فليشتغل بقمع نفسه عن متابعة هواها، مع دوام العزلة عن الخلق، والصمت، وتقليل الاكل، والاكثار من ذكر الله بالتدريج، وحضور القلب مع الذكر، وحصر القلب عن الخوض فيما يعتاده من الخوض في امور الدنيا وتمنيها وحبها، وحصر القلب عن الخوض في جميع المرادات والاختيارات والتدبيرات، وعن الخوض في اخبار الخلق، وزمِّ القلب عن الجزع من امر الله تعالى. فبدوام هذه الامور تتزكى النفس وتخرج من خبثها الى مطابقة امر الله، والا فلا ﴿سُنَّة الله التي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ ولَنْ تَجِدَ لسُنَّةِ الله تَبْدِيلا﴾ والشيخ في هذه الامور دال ومعين، لا خالق ولا فاعل، اذ الخلق والفعل لله، والدلالة للشيوخ. والسلام" اه بلفظه.

ومما وقفت عليه من كلامه رضي الله عنه في هذا المحط بخط يمينه المباركة في جواب لبعض خاصة الخاصة من اصحابه رضي الله عنه، ومنه نقلت ما نصه: " اما ما ذكرت من العوارض الحائلة بينك وبين ما تقصد من عمل الاخرة، فاعلم ان سببه ما تمكن من نفسك من الميل الى الراحات، واقتحام ما تقدر عليه من الشهوات. فانها سمعتْ ان مقام المعرفة بالله تعالى حاصل لها بلا تعب، فمالت الى ما يقتضيه هواها من الراحات. فلو انها علمت ان مقصودها من المعرفة بالله لا يحصل لها الا اذا جدَّت فيما هو من امر الطريق معروف، وفارقت كل مالوف، لاجابت الى ما يراد منها من المجاهدة، لانها تريد الظفر بمطلوبها. فلما سمعت انها يحصل لها دون تعب لم تجب الى ما يراد منها من المجاهدة ومفارقة الحظوظ. فكل عارض لا بد من ظهور حكمه. فمن ظن ان قيام العارض بالقلب على حاله، يمكن معه ظهور نقيض حكمه، فقد جهل امر الله عز وجل، ولم يحصل له من ظنه الا التعب لا غير. ومثال العارض كالسحاب في السماء، ومثال ما وراءه من المجاهدة كالشمس، فاذا صحا السماء من السحاب طلعت الشمس، واذا وقع السحاب دونها حال بيننا وبينها. فلا يمكن وقوع السحاب في السماء وطلوع الشمس صاحية من ورائه. وتعقل هذا وتامله تستفد منه علما عظيما.

وحيث قامت العوارض بالقلب من الميل الى الراحات، واقتحام ما تقدر عليه من الشهوات، امتلا القلب بصور الاكوان والميل اليها. وحيث وقع ذلك تمكن تخليط القلب في امر الهوى، والبعد عن حضرة القدس وعن جميع مقتضياتها. فلا تزول منه هذه الامور الا بوارد الفتح الاكبر الذي يفيض معه بحر المعرفة بالله، والا فلا. فلا تطمع ان يَخْلُوَ قلبك من الظلام والكَدَر ما دامت في قلبك هذه العوارض. وحضرة الحق جارية على النِّسب، لا تخرج عن نَسَبِها.

واعلم ان مراد الله منك في هذا الوقت ما انت فيه. فوقوفك بعبوديتك فيما اقامك الله فيه في وقتك هو اولى بك وامكن من رمي فكرك الى مطلب قَطَعَتْكَ دونه العوارض، ولم تحصل منه على طائل. فسلم الامر الى الله، واعلم ان ما تطلبه له اجل ومقدار، اذا جاء وقته جاء، ولا يتعجل بطلب تعجيلك.

وان رمت الخروج عما انت فيه الى تنوير القلب، وصفائه، فاذهب وانقطع عما سوى الله تعالى في مكان لا ترى فيه احد. والزِم نفسك اخراج مرادك مما سوى الله تعالى، واستغرق اوقاتك في الذكر المفرد، ترى العجب من تمكين الصفاء. فان لم تساعفك نفسك على هذا، فاعلم ان مراد الله منك ما ذكرنا. واترك عنك ما يتغلغل في قلبك من خواطر السوء المفضية الى سوء الادب مع الله تعالى، ومعنا، بطلبك امورا لا نسبة لها فيك، بل ليس فيك الا نسبة نقائضها:

 

لقد رمت الحِصاد بغير حرث

 

 

يغوص البحرَ من طلب الالي

 

وهذا القدر كاف ان فهمت" انتهى، من خط سيدنا رضي الله عنه بلفظه في الجواب المذكور.

وفي هذا القدر كفاية فيما يشير الى ما ذكرناه، ويحقق ما قدمناه، من ان المراد يكون التربية في هذه الطريقة الاحمدية خالية عن المجاهدة والرياضة المصطلح عليها عند مَنْ بعْدِ الصدر الاول، هو ان المعتمد فيها ما تقدم شرحه من الرياضة القلبية، والسلوك على الطريقة الاصلية. وذلك لا ينافي العمل بما دلت عليه الشريعة المطهرة، واقتضته اداب السنة في الجملة، من الصمت، والاعتزال عن الناس، ونحو ذلك. مع المحافظة في ذلك على عدم الخروج فيه الى حد التفريط فيه او الافراط، والتحرز مما يشير الى رؤية النفس من اظهار التعزر والانبساط، فحقق هذا المناط، فانه مهم جدا، والله الموفق.

واما ما عليه المدار في التزكية والتصفية فيما عدا هذه الطريق من طرق الاولياء الاخيار، والمشايخ الكبار، فانه مذكور في غير ما كتاب، من كتبهم التي الفوها في هذا الباب.

وبالجملة فالاتفاق واقع من المشايخ الكاملين، والعارفين الواصلين، على ان مطالعة كتب القوم، وسماع الحكايات والمواعظ في الادب، لا تعمل وحدها في النفس كبير تاثير يرجى نفعه في المنقلب، وانما ينفع في ذلك بفضل الله تعالى السلوك بالاعمال المشروعة الفاضلة، مع الاستعانة فيه بهمم العارفين المقربين الموصوفين بالمشيخة الكاملة.

فلا محالة ان النفس اذا اخذت بذلك على بابه، واستعانت فيه بهمم سادات هذا الشان واربابه، نبع منها ماء الحياة الهنية، وتحلت بحلية اهل المراتب السنية، فقامت بواجب اداب جميع الحضرات اتم قيام، واستعدت لتوالي الامدادات الوهبية الفائضة عليها من حضرة الملك العلام، فتقَرُّ عينُها من فضل الله تعالى ببلوغ كل مرام.

وهذا القدر كاف في الكلام على حقيقة الادب، وبيان منشاه عند اهل الرتب.

واما بيان مكانته من طريق اهل الكمال، فقد تقدم في اول المطلب انه باتفاق من سادات الرجال، نظام جميع الاعمال، وملاك سائر المقامات والاحوال. وفي الحديث عن معاذ رضي الله عنه انه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (حف الاسلام بمكارم الاخلاق ومحاسن الاداب)". وقال سيدنا انس بن مالك رضي الله عنه: "الادب في العمل، علامة قبول العمل".

وقال عبد الله بن المبارك رضي الله عنه: "من تهاون بالادب عوقب بحرمان السنن، ومن تهاون بالسنن عوقب بحرمان الفرائض، ومن تهاون بالفرائض عوقب بحرمان المعرفة".

وقال ابو علي الدقاق رضي الله عنه: "العبد يصل بطاعته الى الجنة، وبادبه في طاعته الى الله تعالى".

وقال بعضهم: "التوحيد يوجب الايمان، فمن لا توحيد له لا ايمان له. والايمان يوجب الشريعة، فمن لا شريعة له لا ايمان له، ولا توحيد له. والشريعة توجب الادب، فمن لا ادب له لا شريعة له، ولا ايمان له، ولا توحيد له".

وقال الشيخ ابو الحسن النَّوْري رضي الله عنه: "ليس لله تعالى في عبده مقام ولا حال ولا معرفة تَسْقُطُ معها اداب الشريعة، اذ الاداب حلية الظاهر، والله تعالى لا يحب تعطيل الجوارح من التحلي بمحاسن الاداب". وقال ايضا رحمه الله تعالى: "من لم يتادب للوقت، فوقته مقت".

وقال ذو النون المصري رضي الله عنه: "اذا خرج المريد عن حد استعمال الادب فانه يرجع من حيث جاء".

وقال ابو علي الدقاق رضي الله عنه: "ترك الادب، موجب للطرد، فمن اساء الادب على البساط رد الى الباب، ومن اساء الادب على الباب رد الى سياسة الدواب".

وقال بعضهم: "الزم الادب في الظاهر والباطن، فما اساء احد الادب في ظاهر الا عوقب ظاهرا، وما اساء احد الادب باطنا الا عوقب باطنا".

وقال رُؤَيْم رضي الله عنه: "يا بني، اجعل عملك ملحا، وادبَك دقيقا".

وقال ابن المبارك رضي الله عنه: "نحن الى قليل من الادب احوج منا الى كثير من العلم". وقال ايضا رحمه الله تعالى: "الادب للعارف، بمنزلة التوبة للمستانف" اه.

فهذه كلها نصوص صريحة، واقوال مؤيدة بنور الالهام مسددة صحيحة، مفصحة اي افصاح بعلو مكانة الادب من الطريق، وسمو قدره لدى فحول هذا الفريق، مصرحة بان جميع الاعمال الدينية، الموصلة الى الحضرة القدسية، قلبية كانت او بدنية، قولية او فعلية، لا يُعتبر شيء منها في بساط التحقيق الا محفوفا بالمحاسن الادبية، والمحامد الصفاتية، والمكارم الخُلُقية، وبان تحلية العمل بالادب عاجلا، علامة قبوله اجلا، وبان الادب كما يحتاج اليه المريد المبتدئ في احوال بدايته، يتوقف عليه المنتهى في مقامات نهايته، لانه كما تقدم عن ابن المبارك رحمه الله تعالى في حق العارف، بمنزلة التوبة في حق المستانف. فكما ان المستانف لا يصح منه الاستئناف في الخير الا بالتوبة – اي الرجوع من كفران النعم بارتكاب المخالفات، الى شكرها بالتزام القيام بانواع العبادات والطاعات -، فكذلك العارف لا ترسخ قدمه في مقامات العرفان، الا بالتزامه الادب فيما قل او جل من اعمال القلوب والاركان. اذ لا شك ان ادب كل انسان، دليل على قدر درجته في مقام الاحسان، ووسع دائرته في مراتب العرفان.

ومما يزيدك تحقيقا بهذا الذي اشرنا اليه في الطريق من علو مكانة محاسن الاداب، وانها لمريد الوصول الى حضرة رب الارباب، من اهم المهمات واقوى الاسباب، ما قرره فرسان هذا الميدان، وعلماؤه الجهابذة الاعيان، من ان لكل منزل من منازل مقامات الدين، ادابا تختص به عند المحققين.

فمما يخص اول المنازل الثلاثة لمقام الاسلام، وهو منزل التوبة التي هي كالارض لبناء كل حال ومقام، ترك صحبة الاقران الذين كان الفهم على التقصير، ومواصلة من يوافقه في طلب مرضاة الله تعالى على الجد والتشمير، واجتناب مواضع اللهو والمجون، وعدم ذكر شيء من لذاته السالفة الا بقلب متحسر محزون. فهذه اربعة اداب، لا يصح الاستئناف في الخير مع ترك شيء منها لذى متاب.

ومما يختص بثاني المنازل لهذا المقام، وهو منزل الاستقامة ظاهرا وباطنا في معاملة خالق الانام: متابعة الحبيب عليه الصلاة والسلام. في كل ما يرجع الى العبادة والعادة من قول وفعل وحركة وسكون. بطريق المثابرة والدوام، اذ لم يصدر عنه صلى الله عليه وسلم باتفاق من اهل العرفان، فعل لا عبودية فيه كيف ما كان. والاخذ بالاعم فالاعم من الاقوال والافعال، والقصد لتعديل الحركات والسكنات بالمتابعة في عموم الاوقات والاحوال، والبناء في امر المتابعة على ضبط النفس بالضوابط الشرعية، ودفع الخواطر العارضة عند التلبس بالاتباع بامضاء العزم، والغاء الوهم، بالوقوف في ذلك كله عند الحدود المرعية. فهذه اداب خمسة، لا يصح لمن اخل بشيء منها ان يحلي بالاستقامة معناه ولا حسه.

ومما يختص بثالث هذه المنازل، وهو منزل التقوى التي هي شعار كل نبيه ومرمى قصد كل ماجد وفاضل: الاحتياط لبراءة الذمة. بالتحفظ من الشبهات التي هي الوسائط المشكلة بين طرف الحلية والحرمة، والتوقي بقدر الامكان من فضول الحلال، وتجنب الافراط والتفريط في سلوك سبيلها بكمال الاعتدال والتستر بذلك وسع الامكان، ليسلم من الرياء وجدال العامة من ابناء الزمان. فهذه ايضا اداب اربعة، لا تصح التقوى لمن لم يكن جميعها معه.

ومما يختص باول منازل مقام الايمان، وهو منزل الاخلاص الذي هو تصحيح الوجهة الى الله تعالى على وصف العبودية الخالصة في السر والاعلان: الجزع من سلب الاخلاص بسابقة الاهمال، والاتهام للنفس فيما تدعيه من توفية حق الاخلاص على نعت الكمال، واللجا الى الله تعالى من ذلك كله بالفزع اليه سبحانه بالدعاء والضراعة، والمطالبة للنفس بالاخلاص في المباحات والعادات بقدر الاستطاعة، اذ هو الاكسير الكبير لاهل هذه الصناعة، لانه يخرق اعيان المباحات والعادات، فيحيلها عبادة تامة من اجل القربات، واخص الطاعات. فهذه اربع خصال، لا يمكن تصحيح الوجهة الى الله تعالى مع الاخلال بشيء منها بحال.

ومما يختص بثاني المنازل الايمانية، وهو منزل الصدق الذي هو صفاء المعاملة مع الله تعالى من امتزاج الخواطر النفسانية: حفظ الوقت من الخواطر، وتعلق القلب بعالم السرائر، وتلمح الحكم من مختلفات الوجود، واتهام النفس في توفية حقوق الخلق على الحد المحدود، وترك الاجتهاد بالتاويل، حفظا لرسوم القوم من التغيير والتبديل. فهذه خمسة اداب، لا يصح لمن ترك شيئا منها صفاء المعاملة مع رب الارباب.

ومما يختص بثالث منازل الايمان، وهو منزل الطمانينة التي هي سكون القلب الى ثَلْج اليقين سكونا عاريا عن الاضطراب، وثلجا يُشبِه العيان: الحرص على العمل الظاهر والباطن بالتزام الادب فيه على طريق الملازمة والمواظبة، ومباحثة الانفاس في التصفية خشية الفضيحة عند ورود سلطان المراقبة، وعدم الاكتراث بالطمانينة. عند حركة الانتهاض الى مبادئ المراقبة، والسعي الى مراقيها المكينة، وخمود نار الفكرة بورود نار معنى الذكر من غير ان يبلغ به مبلغ السُُّكر. فهذه خصال اربع، من استوفاها فقد استوفى الخير اجمع. وذلك لان منزل الطمانينة من اعظم ابواب الولاية، اذ هو اول منازل المُراد المواجَه بانوار العناية، ومنه يتنسم المريد السالك روائح القرب، وتَبْرُقُ عليه بوارق مشاهدة سَنَى حضرة الرب.

ثم ان لكل منزل من منازل مقام الاحسان، ادابا تختص به ايضا عند اهل العرفان: منها الكتم لما يظهر ويلوح من مبادئ الاسرار هنالك، وتنزه الروح عن الالتفات الى شيء مما كتمه من ذلك. ومنها الثبوت عند اول الواردات التي تغدو عليه من حضرة المعارف وتروح، والرجوع الى الشاهد عند ما تضعُف منه عن تحمل اعباء المشاهدة الروح. ومنها، وهي من اكد الاداب في منزل المعرفة واكملها، اعطاء الحكمة اهلَها ومنعها من غير اهلها.

ولمنازل هذا المقام اداب اخَر يقصر عن شرح حقيقتها في هذا المحل اللسان، ولا يفيد في ايضاح ماهيتها البيان. فمن الادب هنا ان يُثْنَى عن ذكرها العنان، احالة على الذوق والوِجدان، واكتفاء بما يحصل للصادقين من طريق المشاهدة والعيان.

 

ستكفيك من ذاك الجمال اشارة

 

 

ودعه مصونا بالجلال مُحجَّبا

 

وبهذا تظهر بعون الله تعالى مكانة الادب من الطريق، ودرجته من مقامات السلوك على التحقيق. والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق، والهادي الى سواء الطريق.

 

بغية المستفيد لشرح منية المريد

Centro de Estudio y Difusión de la Vía Tiŷāniyya